تمثل زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأخيرة إلى السعودية ودول الخليج منعطفًا هامًا، ليس فقط لما حملته من قرارات تاريخية، بل لما أبرزته من دور محوري للمملكة العربية السعودية في إعادة تشكيل المشهد السياسي الإقليمي وعودة الانخراط الأمريكي في الشرق الأوسط. فلم تكن هذه الزيارة اعتيادية أبدًا، نظرًا لما تحقق فيها من منجزات كبرى، حيث تحولت إلى واحدة من أهم اللحظات التاريخية التي تشهدها المنطقة بعد إعلان ترامب رفع العقوبات الأمريكية المفروضة على سوريا منذ عقود، وهو إنجاز تحقق بفضل جهود رجل واحد، ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الذي احتضن إعلان ترامب بفرح وسرور، ووقف طويلًا للتصفيق لهذا الإنجاز التاريخي الذي سيمنح سوريا والإنسان السوري فرصة للانطلاق نحو مستقبل أفضل.
هذا الحدث التاريخي أبرز بوضوح دور السعودية كفاعل مركزي في صياغة التوازنات الإقليمية والدولية، ونجح في اختصار طريق كان سيمتد لسنوات طويلة من أجل رفع العقوبات بشكل كامل عن سوريا. ونتيجة لذلك، خرج الشعب السوري إلى الشارع احتفالًا بهذا المنجز التاريخي الحقيقي الذي من شأنه أن يخفف المعاناة الإنسانية في سوريا.
بالإضافة إلى ذلك، أظهرت الزيارة التزام صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، الواضح بتحويل العلاقات الدولية للمملكة إلى جسر لدعم القضايا العربية المصيرية، مستفيدًا من شراكتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية – القوة العظمى الأكثر تأثيرًا في النظام العالمي – لتعزيز مصالح الأمة العربية في المحافل الدولية.
ولم يقتصر هذا الانحياز على الشعارات السياسية أو الخطابات التقليدية، بل تحول إلى سياسات سعودية ملموسة، سواء من دعم القضية الفلسطينية في وجه التحديات الإقليمية، إلى تعزيز التضامن الخليجي والعربي في مواجهة الأزمات المشتركة، مرورًا بتحويل العلاقة مع واشنطن من شراكة أمنية تقليدية إلى منصة لدعم الاستقرار الاقتصادي والسياسي للدول العربية.
ولطالما تبوأت القضايا العربية والإسلامية مكانة متقدمة في سلم أولويات السياسة السعودية منذ تأسيس المملكة، وهو أمر يشهد عليه قادة ومفكرون عرب وغيرهم. غير أنه في ظل القيادة الحكيمة لولي العهد الأمير محمد بن سلمان، اتخذت هذه السياسة بعدًا استراتيجيًا جديدًا، حيث أصبحت القوة الناعمة السعودية، المدعومة بالاقتصاد والثقافة والدبلوماسية، أداة فاعلة لتمكين القضايا العربية على الساحة العالمية، مع الحفاظ في الوقت نفسه على توازن دقيق في العلاقات بين الشرق والغرب. إنه نموذج فريد يجسد كيف أن الانتماء للعروبة في القرن الحادي والعشرين لم يعد يتعارض مع بناء تحالفات دولية متينة، بل يمكن أن يكونا وجهين لعملة واحدة.
لقد شاهد الجميع كيف عبر ترامب عن إعجابه الشديد بالتنمية السعودية المشرفة والنموذج الخليجي في بناء الدول من العدم واستخدام ثرواتها في تعزيز الاقتصاد والرفاهية لشعوب المنطقة، قائلًا: “لقد وُلدت نهضة الشرق الأوسط الحديثة على يد شعوب المنطقة أنفسهم”. وفي الحقيقة، تمثل هذه العقيدة تحولًا جديدًا، حيث يسود اعتقاد داخل إدارة ترامب بأن الخليج والعالم العربي لم يحظَ باهتمام دولي كبير، وهو ما كشف عنه ستيف ويتكوف، المقرب جدًا من ترامب، في مقابلة مع تاكر كالرسون قائلًا: “في الشرق الأوسط، إذا استطاع ترامب توحيد إيران مع الدول العربية، فسيتفوق اقتصاد الشرق الأوسط على اقتصاد الاتحاد الأوروبي”، مضيفًا: “الخليج مُقدَّر بأقل من قيمته الحقيقية، وأوروبا مُختَلَّة، وإذا اتحدت دول الخليج، فقد تتفوق على أوروبا”.
هذا الاعتقاد وهذه الرؤية للمنطقة دفعت ترامب إلى التعهد بحماية هذا النموذج الاقتصادي العالمي الناجح جدًا عسكريًا، ومنع تخريبه أو التأثير عليه، كونه يمثل جزءًا من عقيدته الداعية إلى رفض التدخلات الأجنبية ودعم الحلفاء الصادقين والعظماء، على عكس تصريحاته ضد حلفائه الغربيين. فقد امتدح ترامب الشراكة والتحالف السعودي الأمريكي الممتد لعقود، ودعا إلى تعزيزه ودعمه والدفاع عنه بكل الوسائل العسكرية التي تملكها الولايات المتحدة الأمريكية، منتقدًا سلفه جو بايدن قائلًا بأن أمريكا تركت الشرق الأوسط!
ولم يقتصر الإعجاب بهذا التطور التاريخي الذي تحققه المملكة العربية السعودية على ترامب وحده، فقد كتبت الصحافة الأمريكية والبريطانية التي قامت بتغطية هذه الزيارة الكثير. فمجلة الإيكونوميست مثلًا قدمت تحليلًا معمقًا للتطور الاقتصادي المذهل، وقالت بأن ترامب وجد سعودية أخرى عما كانت عليه عام 2017.
هذا التطور وهذا التحول لا يخص السعودية وحدها، بل يقدم درسًا للعالم العربي: أن القوة لا تكمن في الانكفاء أو المواجهات والصراعات، بل في القدرة على تحويل التحالفات إلى خيوط تُحاك منها مصالح الدول والشعوب العربية.